حاوره : ذ.كمال العود
من هو عبد الجليل ولد حموية؟
أجد بعض الحرج في الإجابة على هذا السؤال، ربما ما يحرجنا يجعلنا نفكر، ومن هنا يمكن أن نولد على طريقة سقراط سؤالا آخر: كم يلزمني من طاقة نرسيسية لأجيب؟ ربما تأثرت ببيير بورديو وميشيل فوكو.. وغيرهم من الذين عارضوا السيرة الذاتية الشخصية. لذلك سأحاول وأقول إنني كاتب من مدينة الخميسات، دون أن أتصنع دور البطل الذي عاش حياة عجائبية أو استثنائية، ولا أن أنظر إلى حياة لم أخترها نظرة المتفائل الكاذب، ولا أن أجعلني منتصرا أمام الظروف أو القدر. كل واحد منا تدفعه أناه إلى اعتبار تاريخه الشخصي تاريخا مميزا، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى علاقته العاطفية والوجدانية بماضيه.
نود أن نعود بك إلى الوراء، ماذا عن نشأتك وأيام الطفولة؟
نشأت بمدينة الخميسات، تعلمت الموسيقى من صوت قطرات المطر على قصدير كوخنا المهترئ، وأحببت الفن التشكيلي من خلال اللوحات البئيسة التي كبرت وأنا أشاهد دموع نساء الحي ترسمنها كل ليلة بسب الجوع والفقر والخوف من المستقبل.. وتلقفت المداد كي أحاول إعادة كتابة التاريخ، ومتوهما معاكسة القدر، واقتراف الخلق ولو على الورق.
ما تقييمك للمشهد الثقافي بالمغرب عموما، وبالخميسات خصوصا؟
بمدينة الخميسات يسود الفراغ ويتوقف الزمن ضاربا عرض الحائط كل نظريات الفيزياء. تشعر داخل المدينة أن أحد أبطال سلسلة DARK تمكن من تحقيق نبوءة آدم في المسلسل ودمر الدورة وحطم عقارب الساعة الكبرى. في الخميسات ندفع ثمن الوجود، صدفة، بجانب المركز. علينا أن نختفي، أن نرتدي هوية أخرى كي نضمن لنا مكانا داخل النسيج الاجتماعي الكلي، أو أن نواجه ونخوض المقاومة في معركة نعرف نتيجتها مسبقا، خاسرون رغم الشجاعة.
لا يمكن أن نطلب اليوم من شباب يفكر في الشغل والتعليم وتحسين المستوى المعيشي… أن يتحولوا إلى مثقفين بين ليلة وضحاها. ولا أن نحاول إقناع الجائع بالتهام الكتب عوض الرغيف. ولا أن يضحي بساعة عمل من أجل أن يقرأ كتابا، ولا أن نستبدل صوت عصافير البطن بالسمفونيات. يجب أن تتغير المنظومة ككل حتى تصبح صالحة لإنتاج المثقف، إننا اليوم في حاجة إلى ثورة فكرية، يسهم فيها الجميع بما فيها الدولة باعتبارها تمتلك آليات القيام بذلك.
الخميسات جزء من المغرب، ولا يمكننا اليوم الحديث عن واقع الثقافة دون أن نتحول إلى عدميين، بالضرورة، المدرسة التي ننتظر منها اليوم إنتاج المثقف تحولت إلى مصنع يفرخ العمال والآلات، والجامعة التي كانت تنتج النخبة اليوم تنتج أجيالا مشوهة ثقافية تصارع فقط من أجل العيش، مسؤولية من؟ هذا هو السؤال.
دشنت مشوارك الأدبي بصدور رواية “صهيل جسد” عن منشورات “الراصد الوطني للنشر والقراءة”، ماذا تمثل لك هذه التجربة؟
صهيل جسد كانت صهيل قلم، يحاول أن يقول للعالم أنا هنا أحترق. تجربة استفدت منها الكثير، خصوصا أنني كنت أظن أن عالم الكتابة يسير، ويمكن أن أتحول بين ليلة وضحاها إلى كاتب. لقد فهمت أن الموهبة وحدها لا تكفي، يلزم الكثير من الاحتراق من أجل الانتقال الى مستوى آخر من الخيال، حيث يبدو لك الواقع من الأعلى وتكون قادرا على إعادة ترتيبه بطريقتك، يجب أن تعود نفسك على الجلوس فوق الكرسي، وتعود نفسك على السفر بين الأوراق حتى لو كان ذلك متعبا.
لقد وضعتني الرواية أمام المرآة. انطلقت التجربة من مواقع التواصل الاجتماعي التي تضخم أنا الفرد وتصنع منه نجما، نجما من “الجيمات”، وتضعه أمام جمهور من الافتراضيين، فيتحول الشخص إلى منطاد مليء بالهواء يعلو ويرتفع في سماء النجومية متناسيا أنه مليء بالهواء. وعند أول اختبار تتحطم الأسطورة، ويسقط المنطاد سقوطا لا يحمد عقباه، يشبه انفلات النفاخة المنفوخة بالهواء من اليد. لولا تجربة “صهيل جسد” التي جعلتني أتعرض للصدمة في بدايتي لتحولت إلى منطاد من الوهم والتصفيقات الافتراضية، لقد وضعتني الرواية أمام نواقصي وأخطائي التي لازلت أعمل على إصلاحها. كانت تجربة ومرحلة مهمة لأعيد التفكير في مجموعة من المنطلقات والمبادئ الأساسية لولوج عالم الكتابة.
تعرف الساحة الأدبية هجرة العديد من الكتاب إلى الرواية، كيف تفسر لنا هجرتك العكسية من الرواية إلى القصة؟
هي ليست هجرة بهذا المعنى. هي محاولة الانفتاح على أصناف أدبية أخرى ووضع الذات المبدعة تحت المزيد من الاختبارات. والشاهد هنا أنني حاولت كتابة بعض الشعر أيضا بل انطلقت منه. موضة الرواية أظن حسب رأيي الشخصي، سيحتم عليها الزمن التراجع أمام القصة، لأن تسارع الأحداث والسرعة التي أصبحت تتحرك بها الحياة ككل ستدفع القارئ إلى البحث عن الاختزال الذي توفره القصة، والبحث عن المتعة التي لا تستهلك الكثير من الوقت. وهذا الأمر حدث في الموسيقى وأظن أن العدوى ستنتقل إلى باقي المجالات الإبداعية. أما رحلتي أنا فكانت بغرض التجريب فقط. لا يمكن أن أجعل قلمي رهينا لصنف إبداعي واحد، حتى لو كنت كاتبا فاشلا، يجب أن أفضل في كل الأصناف.
من دوران الفكرة في العقل، وصولا إلى دوران القلم على الورق، كيف تولد القصة عندك؟
تمر بالذهن العديد من الأفكار، وبواسطة تنويع القراءات نجعل من عقولنا تكتسب مهارات جديدة للتفكير، وكلما تضاعفت القراءات إلا وكان العقل قادرا على تجاوز نفسه والإبداع. وعن نفسي أشتغل بطريقة ربما تستنزفني وتستهلك طاقة مهمة لكنني راض عليها إلى حين العثور على أفضل منها، حيث أحاول إبعاد كل الأفكار المتشابهة والبحث عن أفكار جديدة، أحاول ترويض عقلي وإمكانياته الإبداعية على الابتعاد عن نفسه كي لا أسقط في النمطية التي أمقتها، ولا أمر الى مرحلة الكتابة إلا عندما أتأكد أنني لم يسبق أن كتبت بتلك الطريقة، أو أنني قرأت مثل ذلك. مرحلة الكتابة هي المرحلة الختامية لأن قبلها أحاول البحث عن تطوير آليات التفكير الشخصية التي تجعلني أصل إلى زوايا من عقلي لم يسبق أن زرتها، لتهبني أفكارا قادرة على خلق قصص جديدة، حتى لو كانت رديئة، المهم أن تكون جديدة.
بالنسبة لي الإبداع هو صراع مع العقل، هو محاولة دفعه إلى اقتفاء الخيال وإعادة تشكيل الوجود، وكل مرة بطريقة مختلفة كأننا نحاول عد الأكوان الموازية. الرقعة خلقت منذ زمن بعيد، ونحن نحاول أن نعيد تشكيل القطع داخلها فقط، ربما حتى إعادة تشكيلنا لها هو شيء مقدر، ويوهمنا العقل أننا نفعل ذلك بحرية وإرادة.
تم الاحتفاء مؤخرا بمجموعتك القصصية “صرخة القيامة” في جلسة نقدية بطنجة، ماذا يمثل لك هذا الاحتفاء، وهل تراه ضروريا لإشعاع تجربتك الأولى في القصة؟
أكيد أنها مرحلة مهمة من تاريخي كمبدع. بعد تجربة “صهيل الجسد” أخذت وقتا مهما لكي أعيد بناء ذاتي الإبداعية، وكان لزاما الدخول إلى مسابقة والاحتكاك مع نصوص أخرى ووضع التجربة بين يدي لجنة تحكيم كي أعرف، هل أنا أتطور أو أنني أعبث فقط، العبث هنا بمعناه السلبي بعيدا عن كامو. هي عملية تقييمية، ليس فقط لتجربتي في الكتابة القصصية بل لتجربتي الإبداعية بصفة عامة. كنت سعيدا لدخولي المسابقة والتنافس مع كتاب آخرين.
تشهد الحركة النقدية تراجعا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، ما رأيك في ذلك؟ وإلى أي درجة حظيت أعمالك بالمواكبة النقدية؟
“صهيل جسد” فاجأتني في هذا الجانب، لأنها حظيت بعناية النقاد، وكتبت حولها العديد من الورقات النقدية الرصينة. أنا صراحة لست من متتبعي الحركة النقدية كي أجيب عن سؤال من هذا القبيل، النقد اليوم ربما تأثر بهذا النزوح الغريب نحو الرواية التاريخية، ليس تراجعا للنقد ولكن تراجع للإبداع المكتوب باللغة العربية لو أردنا وضعه في سياقه العالمي خاصة في شق تجريب مختلف المواضيع الحديثة. نحن ملعونون بالتاريخ في كل شيء حتى في الخيال ربما. النقاد مضطرون ان يتبعوا المبدعين، والمبدعين اليوم تتحكم فيهم الجوائز الكبرى التي تتبنى هذه الرؤيا.
حصلت مؤخرا على جائزة “رونق المغرب” للقصة سنة 2020. في نظرك ما فائدة الجوائز الأدبية على الإبداع؟ وماذا يمثل لك الفوز بالرتبة الأولى؟
الجوائز هي السبيل الوحيد القادر اليوم على تحريك البرك الأسنة، وإعادة التوهج للأقلام المبدعة، خصوصا الجوائز التي تتبنى إيديولوجيات مسبقة تحاول تنميط الابداع. هي حل في ظل تراجع النشر والجشع الذي يسيطر على بعض دور النشر على قلتها والتعامل مع المبدعين بمنطق المستخدمين، تبقى الجوائز مهمة جدا كنوافذ جديدة للنشر وإعادة الاعتبار للمبدع.
ما الذي يحلم به الكاتب عبد الجليل ولد حموية، ولم يتحقق بعد؟
أن أعيش مرات عديدة كي أستطيع الكتابة بطرق مختلفة، لأن كل حياة وكل تنشئة اجتماعية تعطيك آليات تفكير خاصة بها وزاوية نظر الى الأمور جديدة. سأفكر على طريقة درويش وأقول أريد أن أولد منتصرا كي أعرف هل الكتابة موهبة مطبوعة في جيناتي؟ أم أنها وليدة الانهزام؟ وأنا أقول أم أنها وليدة البؤس؟
بعد “صهيل جسد” و”صرخة القيامة” ما هي أعمالك الأدبية المستقبلية؟
أشتغل هذه الأيام على مجموعة قصصية جديدة ستكون مختلفة عن “صرخة القيامة”. وبعد ذلك سأرى ماذا يشاء القلم أن يفعل بي. الكثير من الأفكار تمر بالذهن، لكن من منها ستخرج إلى الواقع؟ الزمن هو الوحيد القادر على الإجابة على كل الأسئلة.
كلمة أخيرة.
أن تحاول الإبداع في مجال يفرض الرقابة على الواقع والخيال هي مغامرة محفوفة بالمخاطر، خطر الذهاب إلى الجحيم أو الذهاب إلى السجن، لذلك أحيي كل من لازالت في دمه نقطة إبداع وسط هذا الواقع الشاحب والمليء بالألغام.
شكرا أستاذ كمال على هذه المبادرة التي تقربنا من المبدعين أكثر. مزيدا من التوفيق في حياتك الشخصية والأدبية.